
بقلم: ق. سمير داود
دُعيتُ مؤخرًا لحضور ندوة علمية عن الأب جورج قنواتي، أحد أبرز الآباء الدومينيكان، ومؤسسي معهد الدراسات الشرقية في مصر، والذي تميّز عن غيره ممن تبنوا فكرة الحوار بين الأديان، باتخاذه مسارًا مختلفًا آنذاك. لقد بنى الأب قنواتي حوارًا يرتكز على الدراسة العميقة والمعرفة الحقيقية بالإسلام، فترك أثرًا فكريًا باقياً وممتداً.
رافقت في تلك الندوة نيافة المطران منير حنا أنيس، رئيس الأساقفة الشرفي لإقليم الإسكندرية للكنيسة الأسقفية، ومدير المركز المسيحي-الإسلامي للتفاهم والشراكة. وبينما كنت أتابع الندوة، وجّهت نظري إليه، وسألت نفسي: كيف لرجل بهذا الثقل الوطني والفكري، بنى حوارًا دينيًا عمليًا يقوم على الاحترام المتبادل والمحبة الصادقة، ألا يُكرَّم أو يُشكر على جهده من الدولة؟!
هذا السؤال كان دافعًا لكتابة هذه الكلمات القليلة، شهادة حق في رجل مصري أصيل، أصفه دون تردد بـ”رائد الحوار الديني المسيحي-الإسلامي العملي” في مصر، وأعني بذلك أنه أول من حوّل الحوار من شعارات ونصوص إلى برامج ومشاريع واقعية ملموسة، أراها بنفسي على أرض المحروسة.
البداية من كانتربري… إلى الأزهر
في عام 1999، زار رئيس أساقفة كانتربري، اللورد جورج كاري، مصر، وطلب زيارة الأزهر الشريف. وهناك، قدّم عظة تاريخية قال فيها: “نحن متنوعون ومختلفون في الأديان، لكن يمكننا أن نعيش ونعمل معًا”.
لم تكن هذه الكلمات عابرة، ففي 11/9/2000، بدأت صياغة اتفاقية بين الكنيسة الأسقفية والأزهر الشريف، وانتهت المسودة يوم 11/9/2001 وقت تفجير برجي التجارة العالي وتم توقيعها رسميًا يوم 30 يناير 2002 في قصر لامبث بلندن، بحضور المطران منير حنا، والدكتور علي السمان، وشيخ الأزهر الراحل د. محمد سيد طنطاوي.
ومنذ ذلك الحين، شغلت فكرة الحوار العملي تفكير المطران منير، وكان يتساءل: “كيف نأخذ هذه الاتفاقية من الطاولة إلى الشارع؟”
من الاتفاقيات إلى التطبيق العملي
بين عامي 2003 حتى 2008، كان الحوار يتم في إطار ندوات متبادلة بين إنجلترا ومصر، لكنه لم يكن كافيًا في نظر المطران منير، الذي كان يتطلع إلى حوار يغيّر الواقع.
وفي عام 2008 بدأ الحوار ينتقل من الطاولة للشارع وظهرت أولى الثمار مع بداية مشروع “معا نزرع شجرة من الأمل” لتنمية ثقافة قبول الأخر بين أطفال المدارس.
وفي عام 2013، مشروع رائد لتدريب الأئمة والقساوسة المصريين، ” معاً من أجل مصر” حيث قُسمت غرف التدريب لتضم كل منها شيخًا مسلمًا وقسًا مسيحيًا، في خطوة كانت صادمة لكثيرين لكنها أثمرت عن حوار حقيقي استمر لثلاث سنوات متواصلة.
من القادة إلى الشباب
بفضل نجاح هذا المشروع، طلب رئيس الجمهورية من المطران منير التفكير في تطبيق النموذج نفسه على شباب مصر. وهكذا وُلد مشروع “معًا من أجل تنمية مصر”، الذي انطلق عام 2017 حتى 2021، وشمل محافظات عدة مثل بورسعيد، المنوفية، المنيا، السويس، الإسكندرية، والقاهرة.
تكوّنت من خلاله مبادرات شبابية ذات طابع مجتمعي، حملت روح التعاون والتكامل بين المسلمين والمسيحيين، وكانت لها آثار ملموسة في تعزيز الوحدة الوطنية.
المركز المسيحي-الإسلامي للتفاهم والشراكة
بعد تقاعده من منصبه الكنسي، وتقديره ببلوغ سن المعاش حسب النظام الأسقفي الأنجيليكاني، تولّى نيافة المطران سامي فوزي شحاتة رئاسة الكنيسة الأسقفية، وهو من الرجال الذين أدركوا أهمية ما أسسه المطران منير من نهج في الحوار، فأطلق مبادرة تأسيس المركز المسيحي-الإسلامي للتفاهم والشراكة، وأسند إدارته إلى المطران منير حنا.
اشترط المطران سامي والمطران منير أن يكون المؤسسون من رجال الدين المسيحي والإسلامي، وقد افتُتح المركز في 27 أبريل 2022 بحضور عدد من الشخصيات البارزة، منهم:
فضيلة مفتي الديار المصرية الدكتور نظير عيّاد
الدكتور مصطفى الفقي، رئيس مكتبة الإسكندرية
الدكتور محمد فوزي، وزير الصناعة الأسبق
الأب رفيق جريش مدير المكتب الصحفي للكنيسة الكاثوليكية في مصر
المستشار عدلي حسين، محافظ القليوبية الأسبق
الدكتور جرجس صالح، الأمين الشرفي لمجلس كنائس الشرق الأوسط
السفير رؤوف سعد مساعد وزير الخارجية
الدكتور زياد بهاء الدين نائب رئيس الوزراء السابق
دكتور سامح فوزي مدير بمكتبة الأسكندرية
رجل الأمل والعمل
إن شخصية المطران منير حنا تتجاوز الأطر الرسمية. إنه رجل عملي، وديع، وصبور، يقتنص الفرص لصالح مصر، واضعًا نصب عينيه وطنه، دون اعتبار للتحديات أو العقليات المتحجرة أو الأبواب المغلقة.
آمن دومًا بأن مبدأ المواطنة هو السبيل إلى وحدة النسيج الوطني، وعمل على إذابة الفوارق المصطنعة، منطلقًا من قناعة راسخة بأننا جميعًا ننتمي إلى عنصر مصري خالص، فريد بخصائصه، لا مثيل له في العالم كله.
كلمة أخيرة
المطران منير حنا أنيس لم يكن مجرد رجل دين، بل كان صانع سلام، ومهندس جسور، ومواطنًا مصريًا خالصًا لم يدّخر جهدًا في سبيل وطنه.
ألا يستحق هذا الرجل، عن جدارة، أن يُكرَّم؟ بل وأن يُروى اسمه كأحد أبرز رواد الحوار الديني في تاريخ مصر الحديث